الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 182 ] 959 - باب بيان مشكل الواجب فيما اختلف فيه أهل العلم من قول الرجل : لفلان علي ما بين كذا إلى كذا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

5936 - حدثنا فهد بن سليمان ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح . عن أبي سعيد قال : قال عمر : يا رسول الله سمعت فلانا يثني عليك خيرا ، ويقول خيرا ، زعم أنك أعطيته دينارين ؟ قال : لكن فلانا ما يقول ذلك ، لقد أصاب مني ما بين مائة إلى عشرة ، ثم قال : إن أحدكم ليخرج من عندي بمسألته يتأبطها ، أو نحوه ، وما هي له إلا نار .

فقال عمر - رضي الله عنه - : فلم تعطيه ؟ قال : فما أصنع ؟ يسألوني ، ويأبى الله عز وجل لي البخل
.

[ ص: 183 ] ففي هذا الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أصاب مني ما بين مائة إلى عشرة ، وهذا يدخل في باب من الفقه قد تنازع أهله فيه ، وهو قول الرجل : لك علي ما بين درهم إلى عشرة دراهم .

فقال قائلون منهم : يقولون عليه تسعة دراهم ، منهم : أبو حنيفة ، وقائلون منهم يقولون : له ثمانية دراهم ، منهم : زفر ، وقائلون منهم يقولون : له عشرة دراهم ، منهم : أبو يوسف ، ومحمد ، وقائلون منهم يقولون : لا شيء له عليه ; لأنه أقر له بما بين الدرهم الواحد وبين العشرة كلها ، ولا شيء بينهما .

وكان ما في هذا الحديث الذي روينا دفع هذا القول الأخير من هذه الأقوال ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه قد كان أعطى ذلك الرجل عطية يستحق بها الشكر فلم يشكرها ، وهو صلى الله عليه أفصح الناس .

وكان الذي وجدناه من كلام العرب موافقا للمعنى الذي يوجب دفع ذلك ; لأنا قد وجدناهم فيما ذكره الفراء عنهم يقولون : مطرنا ما زبالة فالثعلبية يا هذا ، وله عشرون ما ناقة فجملا ، يريدون ما [ ص: 184 ] بين ناقة وجمل ، والعدد عشرون ، أي : عدد الذي له من ذينك الجنسين عشرون .

ومن ذلك ما حكاه الكسائي أنه سمع أعرابيا ، ورأى الهلال ، فقال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك . والإهلال والإسرار جميعا داخلان فيما ذكر ، وكذلك قولهم أيضا : الشنق ما خمسا إلى خمس ، يريدون ما بين خمس إلى خمس مع إدخالهم الخمس التي ابتدؤوا بذكرها ، والخمس التي ختموا بذكرها في ذلك ، فمثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أعطيته ما بين مائة إلى عشرة ، فدخل فيه المائة مع دخول العشرة التي هي منها فيها . وفيما ذكرنا ثبوت ما كان أبو يوسف ، ومحمد يذهبان إليه في ذلك .

وقال قائل : فقد رأيناهم لا يختلفون فيمن قال : لفلان ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط : أن له ما بينهما ، وليس له من الحائطين شيء مع وقوفهم على المعنى الذي أوجب القول الذي ذكرنا في المسألة الأولى ، وهذان لا فرق بينهما .

فكان جوابنا له في ذلك : أن الذي ذكر في الحائطين على شيئين معينين أقر بما بينهما ، فدخل ما بينهما في إقراره ، والإقرار بما ذكرنا سوى ذلك غير معين إنما هو إقرار بشيء لم يعتمد المقر فيه عند إقراره إلى شيء بعينه ، فيحمل إقراره إلى ما بين الشيئين ، وإنما أقر بما بين شيئين مرسلين ، وفي مثلهما ما قد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما [ ص: 185 ] ذكرناه من كلام العرب .

والغايات للأشياء المذكورة منها ليست بأعيان ، وقد وجدناها لا تدخل في الأشياء المذكورة بها ، فمن ذلك قول الله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل . والليل غير داخل في ذلك ، ووجدناها تدخل فيها ، ومن ذلك قوله عز وجل : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين . وكانت المرافق والكعبان داخلة في ذلك ، وفي هذا ما يدل على أنهم قد يدخلون ما يجعلونه غاية فيما قد جعلوه غاية له ، وقد لا يدخلونه فيه ، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الدرهم العاشر : إنه لما احتمل أن يكون دخل ، واحتمل أن لا يكون دخل لم يدخله في ذلك ، وقال مع ذلك في رجل باع عبده على أنه بالخيار إلى غد : إنه بالخيار حتى يمضي غد ; لأنه قد يحتمل دخول غد في ذلك ، وقد يحتمل أن لا يدخل فيه ، فلم يوجب البيع حتى علم وجوبه .

[ ص: 186 ] فأما ما ذكرناه من القول في المسألة الأولى الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد ذكرناه عنه قد أغنانا عن الكلام في ذلك بشيء ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية