الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 237 ] 894 - باب بيان مشكل ما روي فيمن قرأ قوله : وما هو على الغيب بظنين أو بضنين

قال أبو جعفر : قد ذكرنا مخرج قراءة عاصم فيما تقدم من كتابنا هذا ورجوعها إلى علي ، وعبد الله وزيد - رضي الله عنهم - وذكرنا في رواية أبي بكر بن عياش أخذه إياها عنه حرفا حرفا ، وأنه كان يقرأ هذا الحرف بالضاد ، وذكرنا قراءة حمزة ومخرجها وإلى من ترجع في الإسناد الذي ذكرناها به ، وأنه كان يقرأ هذا الحرف كذلك ، وذكرنا قراءة نافع وأخذه إياها عن الجماعة الذين أخذها منهم ، وأن منهم أبا جعفر ، وأخذ أبي جعفر إياها عن مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، وأخذ مولاه إياها من أبي وكان يقرأ هذا الحرف كذلك أيضا .

وأما عبد الله بن كثير فكان يقرؤه بالظاء .

كما حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا خلف بن هشام في القراءة كذلك .

وقد روي في أخذ خلف قراءة عبد الله بن كثير في هذه الرواية عن عتبة بن عقيل ، عن شبل المكي ، عن عبد الله بن كثير .

[ ص: 238 ] وأما أبو عمرو بن العلاء فكان يقرؤها بالظاء .

كما حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا خلف أبو زيد ، عن أبي عمرو : أنه كان يقرؤها كذلك .

وكذلك كان عبد الرحمن الأعرج ، والليث بن سعد يقرآنها ،

كما حدثنا روح بن الفرج قال : سمعت يحيى بن عبد الله بن بكير يقول : سمعت الليث بن سعد ، يقول لعبد الحكم بن أعين : كيف يقرأ صاحبك - يعني نافعا - هذا الحرف وما هو على الغيب بضنين ؟ قال ابن بكير : وكان الليث يقرؤها بظنين .

وكما حدثنا روح بن الفرج ، حدثني ابن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة : أنه سمع الأعرج يقرؤها بظنين بالظاء .

وأما ما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مما قد .

حدثنا يونس ، أخبرنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها بظنين .

وما قد حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا خلف ، حدثنا هشيم ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه قرأها كذلك .

[ ص: 239 ] غير أن مجاهدا قد روى عن ابن عباس أنه كان يقرؤها بالضاد .

كما حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا خلف ، حدثنا هشيم ، وخالد - يعني ابن عبد الله - عن مجاهد ، عن ابن عباس : بضنين بالضاد .

وكما حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا خلف ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن مجاهد مثله .

ثم نظرنا في الأولى من هاتين القراءتين بما جاءت به الآثار الدالة على ذلك ، فكان الذين قرؤوها ( بالضاد ) معناه يكون بخيلا بالغيب ، والذين قرؤوها ( بالظاء ) نفوا عنه أن يكون متهما في ذلك .

ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد كان غير متهم عند قومه حتى كانوا يسمونه الأمين لصدق لهجته ، ولأمانته التي كان عليها .

5596 - كما حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، حدثنا عباد بن عوام ، عن هلال بن خباب ، حدثني مجاهد ، حدثنا مولاي عبد الله بن السائب ، قال : كنت فيمن بنى البيت ، فأخذت حجرا ، فكنت أعبده ، فإن كان ليكون في البيت الشيء ، فأبعث به فيصب عليه . ولقد كان يؤتى باللبن الطيب فأبعث به فيصب عليه ، وإن قريشا اختلفوا وتشاجروا في الحجر [ ص: 240 ] أين يضعونه حتى كاد يكون بينهم قتال بالسيوف ، فقال : انظروا أول رجل يدخل من باب المسجد ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا أمين ، وكانوا يسمونه في الجاهلية ( أمينا ) ، فقالوا : هذا محمد فجاء وأخذ ثوبا وبسطه ، ووضع الحجر فيه ، فقال لهذا البطن ، ولهذا البطن ، ولهذا البطن : ليأخذ كل واحد منكم بناحية الثوب ، ففعلوا فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضعه في مكانه .

وكذلك كان أبو سفيان بن حرب على ما كان في قلبه عليه صلى الله عليه وسلم يومئذ في جوابه قيصر لما سأله : هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال - يعني النبوة . - ؟

5597 - كما حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : [ ص: 241 ] [ ص: 242 ] أن ابن عباس أخبره قال : أنبأنا أبو سفيان بن حرب بن أمية : أنه كان بالشام في رجال من قريش قدمها تجارا في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام ، فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء ، فدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه تاج وحوله عظماؤه ، فقال لترجمانه : سلهم ، أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا أقربهم إليه نسبا ، قال : ما قرابة ما بينك وبينه ؟ قلت : هو ابن عمي ، وليس في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غيري ، فقال قيصر : أدنوه مني ، ثم أمر بأصحابي ، فجعلوا خلف ظهري ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه : إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذب فكذبوه ، قال أبو سفيان : والله لولا الحياء من أن يأثر أصحابي عني الكذب ، لحدثت عنه حين سألني ، ولكني استحييت أن يأثروا عني الكذب فصدقته عنه . فكان مما سأله عنه : هل أنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا .

[ ص: 243 ] ففي هذا من قول أبي سفيان ما فيه من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم من الصدق في الرتبة التي كان منه فيها ، وقد سمع ذلك من قوله من كان معه من قريش فلم يخالفه أحد منهم في ذلك .

وكذلك كان من عمرو بن العاص ، ومن عبد الله بن أبي ربيعة عند [ ص: 244 ] النجاشي على ما كان في قلوبهما يومئذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما قدما له على النجاشي فيما يحاولان به ما كانا يحاولانه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقومه الذين كانوا اتبعوه .

5598 - كما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، وكما حدثنا فهد بن سليمان ، حدثنا يوسف بن بهلول ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، أخبرني الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قصة خروجهم إلى النجاشي : أن قريشا بعثت إلى النجاشي عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة ، وأن عمرا قال : لا بالله لأجيبنه بما أبيد به خضراءهم ، لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهك الذي تعبد عبد . فقال عبد الله : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا ، فقال : أحلف بالله لأفعلن ، فرجع إليه بعد يوم قد كان دخل عليه فيه . فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى عليه السلام قولا عظيما ، فابعث إليهم ، فسلهم عنه ، فأرسل إلينا . فقال : ماذا تقولون في عيسى ؟ قالوا : نقول فيه ما قال الله عز وجل ، وما قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فدلى يده ، فأخذ عودا من الأرض ، فقال : ما عدا عيسى صلوات الله عليه ، ما قلتم فيه .

[ ص: 245 ] وفي هذا الحديث أن المتكلم له بهذا الكلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأنه قال في أول ما كلمه : كنا مع قومنا في أمر جاهلية نعبد الأصنام ، فبعث الله إلينا رجلا نعرف نسبه وصدقه ووفاءه ، ثم ذكر بقية الحديث .

ولم يدفع عمرو ولا عبد الله بن أبي ربيعة ، ولو كانا يستطيعان دفع ذلك لفعلاه ، ولكنهما تركا ذلك لعلمهما أن الحجة كانت تقوم عليهما لجعفر بما قاله من ذلك ، فتركا خلافه لذلك .

وفي هذا أيضا ، وفيما ذكرناه قبله ما قد دل أنه عليه السلام لم يكن ظنينا عند قومه ، وأنه كان عندهم من أهل الصدق والأمانة ، وفي ذلك ما قد دل أن الذي وصفه الله عز وجل في الآية التي تلونا لم يكن صلى الله عليه وسلم عندهم في خلافه ، وكان الذي وصفه به دفعا عنه أنه يكتم شيئا مما أنزل عليه مما عسى أن يكونوا كانوا يظنونه لما فيه من الرأفة والرفق لهم ، فأنزل الله تعالى ما ينفي ذلك عنه ، وأنزل الله تعالى عليه مع ذلك أيضا : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين .

[ ص: 246 ] وأنزل عليه أيضا : يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك ، وأتبع ذلك بما أنزل عليه : وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته ، وهو صلى الله عليه وسلم أفعل الناس لما يأمره ربه عز وجل وأشدهم تمسكا به .

ولهذا روي عن عائشة رضي الله عنها .

5599 - ما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن عبد ربه بن سعيد أخبره ، أن داود بن أبي هند ، حدثه عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع : أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول : أعظم الفرية على الله عز وجل من قال ثلاثة : من قال : إن محمدا رأى ربه ، وإن محمدا كتم شيئا من الوحي ، وإن محمدا يعلم ما في غد . قلت : يا أم المؤمنين ، وما رآه ؟ قالت : لا ، إنما ذلك جبريل رآه مرتين : مرة في صورته بالأفق الأعلى ، ومرة سادا آفاق السماء .

[ ص: 247 ]

5600 - وما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا محمد بن المنهال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة مثله .

[ ص: 248 ] وقال بعض أهل العلم في تأويل قوله عز وجل : وما هو على الغيب بضنين أن كل عالم بعلم لا يحب أن يعلم كل علمه غيره ، فأخبرهم الله عز وجل أنه صلى الله عليه وسلم فيما علمه إياه بخلاف ذلك ، وفي ذلك ما قد دل أن معه في علمه غيره من الفضل في ذلك ما يتجاوز به ما علمه كل العلماء .

وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يقول : الاختيار عندي لقراءة هذا الحرف بالظاء ، قال : والضاد والظاء لا يختلف خطهما إلا بزيادة رفع رأس أحدهما على رأس الأخرى ، فهذا قد يتشابه في خط المصاحف ويتدانى .

قال أبو جعفر : ونجيبه عن ذلك بأن نقول : فقد أنكرت على أبي عمرو في قراءته : إن هذين لساحران ، وحاججته في ذلك بأن الألف ثابتة في السواد في ذلك الحرف ، وقد يجوز أن يقطع الألف ويضم إلى الحرف الذي هو منه فيصير هذين ، فكان الذي يلزمك في خلاف السواد في ذلك الحرف هو مثل الذي ألزمته أبا عمرو في خلافه السواد في ذلك الحرف ، وما رأينا مصحفا قط إلا والذي فيه بضنين الضاد ، لا بظنين بالظاء ، وفيما ذكرناه في هذا الباب كفاية لما يقرأ هذا الحرف به وهو بضنين ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية