[ ص: 361 ] 852 - باب بيان مشكل الواجب فيما اختلف فيه أهل العلم في تمثيل الرجل بعبده من عتاق عليه بذلك ومن سواه مما لا عتاق معه
5329 - حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن عمر بن عيسى القرشي ، ثم الأسدي ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب ، فقالت : إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي ، فقال لها عمر - رضي الله عنه - : هل رأى ذلك عليك ؟ قالت : لا . قال : فاعترفت له بشيء ؟ قالت : لا . فقال عمر : علي به . فلما رأى عمر الرجل ، قال له : تعذب بعذاب الله - عز وجل - ! قال : يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها ، قال : رأيت ذلك عليها ، قال الرجل : لا . قال : فاعترفت لك به ، قال : لا . قال : والذي نفسي بيده ، لو لم أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقاد مملوك من مالكه ، ولا ولد من والده ، لأقدتها منك ، فجرده ، فضربه مائة سوط ، وقال : اذهبي ، فأنت حرة لوجه الله - عز وجل - وأنت مولاة لله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من حرق - وسقط من الكتاب : مملوكه - بالنار [ ص: 362 ] أو مثل به مثلة ، فهو حر ، وهو مولى الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - " .
قال الليث : هذا أمر معمول به .
5330 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، قال : حدثني ربيعة بن لقيط ، عن عبد الله بن سندر ، عن أبيه : أنه كان عبدا لزنباع بن سلامة ، فعتب عليه فخصاه [ ص: 363 ] وجدعه ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأغلظ لزنباع القول ، وأعتقه منه .
قال أبو جعفر : فكان هذان الحديثان هما ما كان يحتج به من ذهب إلى عتاق المملوك على مولاه بتمثيله به مما يروى به مما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين يذهبون إلى قول مالك ، وإلى قول الليث غير أن مالكا كان يجعل ولاءه لمولاه .
وكان ما يحتجون به لما قالوه من ذلك أيضا بما يروى عن عمر - رضي الله عنه - فيه .
كما حدثنا عبيد بن رجال ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد [ ص: 364 ] الشافعي ، قال : حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير : أن أبا يزيد القداح أخبره ، قال : رأيت عمر بن الخطاب جاءته أمة سوداء ، قد شويت بالنار ، فاسترجع عمر حين رآها ، وقال : من سيدك ؟ فقالت : فلان ، فأتي به ، فقال : عذبتها بعذاب الله - عز وجل - والله لولا ، لأقدتها منك ، فأعتقها ، وأمر به ، فجلد .
فتأملنا ما احتجوا به من ذلك ، فوجدنا الحديث الذي بدأنا بذكره في هذا الباب مما لا يحتج بمثله ، إذ كان إنما يرجع إلى عمر بن عيسى ، وليس ممن يعرف ، ولا ممن يقوم هذا بمثله .
ووجدنا الحديث الذي ثنينا بذكره فيه ، وإن كان فوق الحديث الأول ، ليس مما يقطع بمثله أيضا في هذا الباب ، ولا تقوم الحجة عند المحتجين به لخصمهم إذا احتج عليهم بمثله في هذا المعنى .
ووجدنا الحديث الذي ثلثنا بذكره ، وإن كان طريقه الذي روي منه حسنا مقبولا أهله ، ليس فيه أيضا ما يجب به حجة للمحتجين به فيما ذهبوا إليه مما ذكرناه عنهم في هذا الباب ; لأنه قد يجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - فعل ذلك عقوبة لفاعله ، إذ كان مذهبه العقوبات [ ص: 365 ] على الذنوب في أموال المذنبين ، كما فعل بحاطب في عبيده الذين كان يجيعهم حتى حملهم ذلك على سرقة ناقة لرجل من مزينة ، وكانت قيمتها أربعمائة درهم ، فغرم حاطب لذلك ثمانمائة درهم .
كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب : أن مالكا حدثه عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فانتحروها ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ، ثم قال عمر : إني أراك تجيعهم ، ثم قال عمر بن الخطاب : والله لأغرمنك غرما يشق عليك ، ثم قال للمزني : كم ثمن ناقتك ؟ قال أربعمائة درهم ، فقال عمر : أعطه ثمانمائة درهم .
وكان ما كان عليه عمر - رضي الله عنه - من هذا ، لا يقوله المحتج بحديثه الذي قد رويناه عنه في هذا الباب ، ولما كان الذي كان من عمر محتملا ما ذكرنا ، احتمل أن يكون العتق الذي كان منه للجارية المشوية بالنار لمثل ذلك أيضا ، وإذا اتسع خلاف عمر - رضي الله عنه - في ذلك بالإجماع على خلاف ما كان منه فيه ; ولأن مذهبه الذي كان عليه في ذلك قد كان في أول الإسلام من العقوبات في الأموال .
من ذلك ما قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة : " من أعطاها [ ص: 366 ] مؤتجرا ، قبلناها منه ، وإلا فإنا آخذوها وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا " .
ومن ذلك ما روي عنه فيمن وقع على جارية امرأته مستكرها لها أو غير مستكره لها مما سنذكره من بعد في كتابنا هذا إن شاء الله .
وإذا وجب نسخ ذلك ، واستعمال ضده ، كان مثل ذلك أيضا من العقوبات في الأموال بالمثلات وغيرها يكون مثل ذلك ، وتكون العقوبات ترد إلى أمثالها ، وترك أخذ ما سواها بها .
ثم رجعنا إلى ما يروى عن رسول الله مما يدخل في هذا الباب .
5331 - فوجدنا يونس قد حدثنا ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب : أن مالكا أخبره عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، عن عمر بن الحكم : أنه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، إن لي جارية كانت ترعى غنما لي فجئتها ، ففقدت شاة من الغنم ، فسألتها عنها ، فقالت : أكلها الذئب ، فأسفت عليها ، وكنت من بني آدم ، فلطمت وجهها ، وعلي رقبة ، أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أين الله - عز وجل - ؟ " قالت : في السماء ، قال : " من أنا ؟ " [ ص: 367 ] قالت : أنت رسول الله ، قال : " أعتقها .
قال أبو جعفر : هكذا يقول مالك في إسناد هذا الحديث : هلال بن أسامة ، والذين يروونه سواه عن هلال ، يقول بعضهم : هلال بن علي ، ويقول بعضهم : هلال بن أبي ميمونة .
وقد يحتمل أن يكون هلال هذا هو ابن علي بن أسامة ، فيكون مالك نسبه إلى جده ، ويحتمل أن يكون أبوه من علي ، ومن أسامة كان يكنى أبا ميمونة ، وفيه : عن عمر بن الحكم ، والناس جميعا يقولون فيه : عن معاوية بن الحكم ، ويخالفون مالكا فيه .
5332 - ووجدنا محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي قد حدثنا ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم السلمي ، قال : أطلقت غنيمة لي ترعاها جارية لي في قبل أحد والجوانية ، فوجدت الذئب قد ذهب منها بشاة ، فصككتها صكة ، فأخبرت بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، لو أعلم أنها مؤمنة ; لأعتقتها ، فقال : " ائتني بها " فجئت بها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أين الله - عز وجل - ؟ " فقالت : في السماء ، فقال لها : " من أنا ؟ " [ ص: 368 ] فقالت : أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها مؤمنة فأعتقها .
5333 - ووجدنا يونس قد حدثنا ، قال : أخبرنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني هلال بن أبي ميمونة ، قال : حدثني عطاء بن يسار ، قال : حدثني معاوية بن الحكم السلمي ، ثم ذكره .
[ ص: 369 ]
قال : وكان ما في هذا الحديث من ذكر الصكة لا يخالف ما في الحديث الأول من ذكر اللطمة ; لأن اللطمة قد تسمى صكة ، ومنه قول الله - عز وجل - : فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها ، وكانت اللطمة قد يكون عنها الشين في الوجه الذي يكون تمثيلا بالملطوم ، فلما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكشف عن ذلك قبل حضور الجارية إليه ليعلم أنه قد أحدث في وجهها ما يكون تمثيلا بها ، أعتقها أو قضى بعتاقها على مولاها الذي فعل ذلك بها ، عقلنا بذلك أن تمثيله بها لا يوجب عتاقها عليه ، كما يقول ذلك من يقوله ممن ذكرناه في هذا الباب .
5334 - ووجدنا يزيد بن سنان قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، ووهب بن جرير ، قالا : حدثنا شعبة .
5335 - ووجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا ، قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، ثم قال كل واحد من يزيد ومن إبراهيم في حديثه ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سألني عن اسمي ، فقلت : شعبة ، فقال : حدثنا أبو شعبة ، قال : لطم رجل وجه خادم له عند سويد بن مقرن ، فقال سويد : ألم تعلم أن الصورة محرمة ؟ لقد رأيتني وأنا سابع سبعة إخوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا إلا خادم واحد ، فلطم أحدنا وجهه ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقه .
[ ص: 370 ] قال : فكان في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه أن يعتقه ما قد دل أنه لم يكن عليه عتق قبل ذلك بلطمته إياه التي قد يكون عنها إحداث المثلة به في وجهه .
ووجدنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يدخل في هذا الباب ما هو أدل على انتفاء العتاق بالفعل الذي ذكرنا ، وهو .
5336 - ما قد حدثنا عبد الملك بن مروان الرقي ، قال : حدثنا الفريابي ، عن سفيان ، عن فراس ، عن أبي صالح - قال : أبو جعفر : واسمه ميسرة ، وهو أحد أئمة الكوفة - [ ص: 371 ] عن زاذان ، قال : كنت عند ابن عمر ، فدعا عبدا له فأعتقه ، ثم رفع شيئا من الأرض ، وقال : ما لي فيه من الأجر ما يزن ، أو ما يساوي هذه ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من ضرب عبدا له حدا لم يأته ، كان كفارته عتقه .
5337 - ووجدنا ابن أبي داود قد حدثنا ، قال : حدثنا المقدمي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن فراس ، عن أبي صالح ، عن زاذان ، قال : كنت عند عبد الله بن عمر ، وقد أعتق مملوكا له ، فأخذ عودا من الأرض ، فقال : ما لي فيه من الأجر ما يساوي هذا ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من لطم مملوكه ، أو ضربه حدا لم يأته ، فكفارته أن يعتقه .
[ ص: 372 ] قال أبو جعفر : وكان ضرب الحد من أمثل المثلات ، ومن النكال الذي جعله الله - عز وجل - من عقوبات المذنبين ما يوجب مثله ، ولم يجعل من فعل ذلك بعبده قد عتق عليه عبده لقوله : " فكفارته أن يعتقه " وهو قبل أن يعتقه عبد ، وفيما قد ذكرنا ما قد قامت به الحجة لمن ينفي العتاق بالمثلة التي وصفنا على من يوجبها فيما ذكرنا ، والله نسأله التوفيق .


