الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 369 ] 911 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقضي بين الفقهاء المختلفين في الرطب هل هو من الفاكهة ، أم ليس هو منها ؟

قال أبو جعفر : قال أبو حنيفة ، وكان تفرد فيما قد حدثنا محمد بن العباس بن الربيع ، حدثنا علي بن معبد ، حدثنا محمد بن الحسن ، أخبرنا يعقوب ، عن أبي حنيفة ، قال : ليس الرطب من الفاكهة .

وحدثنا سليمان بن شعيب ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، بمثل ذلك ، وزاد أن قال : لأن الله عز وجل قال : فيهما فاكهة ونخل ورمان فأخبر أن النخل والرمان منها ما يكون من ثمارها ليس من الفاكهة .

قال محمد بن العباس ، وسليمان جميعا في روايتهما : وقال أبو يوسف : هو من الفاكهة ، وقال محمد بن العباس في روايته : عن محمد بن الحسن مثل ذلك .

وقال سليمان في روايته : ليس فيما احتج به أبو حنيفة من الآية التي تلاها ما يجب به أن يكون الرطب خارجا من الفاكهة ، وإنما ذلك على التوكيد له : أنه من الفاكهة بدخوله في جملة الفاكهة ، وبإعادة ذكره بعد ذلك على الانفراد ما لا يجب خروجه من الفاكهة ، كما قال الله [ ص: 370 ] عز وجل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ليس على أنهما غير الملائكة ولكن على توكيد أمرهما بأن ذكرهما في جملة الملائكة ، ثم أفردهما بالذكر بما ذكرهما به ، ومثل ذلك قوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ، ثم ذكر من ذكره من سواهما صلى الله عليهم أجمعين للتوكيد ، ولمكانهم من النبوة لا لما سوى ذلك ، فمثل ذلك في الرطب من الفاكهة قد يحتمل أيضا أن يكون دخل في الفاكهة التي ذكرها الله عز وجل ، ثم أفرده بالذكر ، وكان في ذلك توكيد أمره أنه من الفاكهة .

وكان مما يحتج به من يذهب إلى قول أبي حنيفة الذي ذكرناه عنه على المحتجين بهذه الحجة : أن الذي احتجوا به منها قد قامت الحجة فيها بما ذكروا ، ولم تقم الحجة في الرطب أنه من الفاكهة بمثل ذلك ، والحجة مطلوبة في ذلك إلى الآن .

فكان مما احتج به من ذهب إلى قول أبي حنيفة هذا أنه قد وجد عن عبد الله بن عباس ما يدل على أن الرطب ليس من الفاكهة .

5686 - كما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عاصم بن كليب الجرمي ، عن أبيه ، قال : قال لي عبد الله بن عباس : كان عمر رضي الله عنه إذا دعا الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دعاني معهم ، فقال : لا تتكلم حتى يتكلموا ، فدعانا ذات يوم أو ذات ليلة ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ ص: 371 ] في ليلة القدر ما قد علمتم : التمسوها في العشر الأواخر وترا ، ففي أي وتر ترونها ؟ فقال رجل : من أية تاسعة سابعة خامسة ثالثة ، فقال لي ما لك : لا تتكلم ، قلت : إن شئت تكلمت ، قال : إنما دعوتك لتتكلم ، قلت : إني إنما أقول برأيي ، قال : عن رأيك أسألك ، قلت : إني سمعت الله تعالى يقول : ذكر السبع ، فذكر السماوات سبعا ، والأرضين سبعا ، وما أنبتت الأرض سبعا ، قال الله عز وجل : " ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا " فالحدائق : كل ملتف حديقة ، والأب : ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس ، قال عمر : أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا ؟!

قالوا : ففي هذا الحديث ذكر عبد الله بن عباس ما أنبتت الأرض [ ص: 372 ] أنه سبع ، وفي الآية أنه ثمان ، وكنا إذا تأملنا هذا عقلنا أن العنب من الفاكهة ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك فدخل العنب في الفاكهة ، وذكر منفردا في هذه الآية ، فعاد ما بقي في هذه الآية إلى سبع ، لا إلى أكثر منها ، فعقلنا بذلك أن النخل التي يكون عنها الرطب غير الفاكهة ، لأنا لو رددناها إلى الفاكهة ، عاد ما في الآية ستا ، فدل ذلك أن الرطب غير الفاكهة ، وقد كان ذلك من عبد الله بن عباس بمشهد من عمر بن الخطاب ، ومن سواه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، فلم يدفعوا عبد الله بن عباس بما قال من ذلك ولم يخالفوه فيه ، فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه فكان هذا القول لو خلينا وإياه أولى مما قيل في هذا الباب ، غير أنا لما وجدنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العجوة أنها من فاكهة الجنة مما قد روينا فيها في هذا الباب قبل هذا الباب ، وكان هو الذي لا يحدث غيره ، لأنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الحجة على الناس جميعا ، وجب أن يحمل ذلك على أن الرطب داخل في الفاكهة ، وعلى أن ما بقي من الفاكهة بعد الرطب وبعد العنب هو الذي يتم به العدد حتى يكون المذكور في حديث ابن عباس ، كما أراده حتى تكون الفاكهة كما قال الذين قالوا : إن الرطب منها لا كما قال من خالفهم في ذلك .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أيضا حديث آخر ، وهو :

5687 - ما قد حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا حصين بن عمر الأحمسي ، حدثنا مخارق ، عن طارق [ ص: 373 ] ، عن عمر قال : جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : يا محمد في الجنة فاكهة ؟ ! قال : فيها فاكهة ونخل ورمان ، قال : ويأكلون كما يأكلون في الدنيا ! قال : نعم وأضعاف ذلك ، قال : فيقضون الحوائج ؟ قال : لا ، ولكنهم يعرقون ويرشحون ، فيذهب الله تعالى ما في بطونهم من أذى .

فكان في هذا الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل : في الجنة فاكهة ؟ قال : فيها فاكهة ونخل ورمان ، فاستحال أن يكون صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله عن الفاكهة بذكره ما سوى الفاكهة ، ولكنه أجابه بذكره الفاكهة ، وكان في ذلك ما قد دل أن النخل والرمان من الفواكه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية