الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 178 ] 310 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستثناء في الأيمان إن شاء الله

1920 - حدثنا المزني ، قال : قرأنا على الشافعي ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من حلف بيمين فقال : إن شاء الله فقد استثنى .

1921 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

هكذا أملاه علينا ، ثم سمعته بعد ذلك مذاكرة يذكره عن سفيان نفسه ، فقلت له : إنما كنت أمليته علينا عن ابن وهب عن سفيان ، [ ص: 179 ] فقال : وقد سمعته من سفيان ، فقلت له : فإنه ليس في كتابك عن سفيان ، فقال : قد علمت ذلك ، وقد كان عندي كتاب آخر عن سفيان هذا الحديث فيه ، فاحترق .

فعقلنا بذلك أن أيوب راوي هذا الحديث هو أيوب بن موسى .

1922 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا حلف ثم قال : إن شاء الله ، فهو بالخيار .

1923 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو الوليد ثم ذكر بإسناده مثله غير أنه قال : فقال : إن شاء الله فقد استثنى .

[ ص: 180 ] قال أبو جعفر : وأيوب هذا هو أيوب السختياني والله أعلم .

1924 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن كثير بن فرقد أنه حدثه أن نافعا حدثهم ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على يمين فقال إن شاء الله فله ثنيا .

فقال قائل : فقد رويت هذا الحديث على ما رويته وأنت تقول : إن الاستثناء المذكور فيه هو الموصول باليمين لا المقطوع منها ، فما دليلك على ما قلت من ذلك ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن هذا الحديث إنما دار على عبد الله بن عمر ، وقد روينا عنه من قوله .

[ ص: 181 ] ما قد حدثنا أبو بشر الرقي ، قال : حدثنا شجاع بن الوليد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : من حلف بيمين فقال في إثرها : إن شاء الله ، فإنه إن لم يفعل ما حلف عليه ، لم يحنث .

وما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا إسماعيل بن موسى المعروف بابن بنت السدي ، قال : حدثنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : لا حنث في يمين موصول في آخرها إن شاء الله .

فاستحال عندنا أن يكون عبد الله بن عمر مع فضله وورعه وعلمه يرد ما عمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خاص ، إلا بما يجب له به رده .

فقال هذا القائل : فقد روي عن عبد الله بن عباس ما يخالف ما رويته عن ابن عمر فيه .

[ ص: 182 ] وذكر ما قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في حديث أصحاب الكهف : واذكر ربك إذا نسيت ، قال ابن عباس : إذا قلت شيئا فلم تقل إن شاء الله فقل إذا ذكرت : إن شاء الله .

فكان جوابي له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي ذكره عن ابن عباس لا يخالف ما ذكرناه عن ابن عمر ؛ لأن الذي ذكرناه عن ابن عمر في الأيمان ، والذي ذكره عن ابن عباس في الأشياء التي يقول الرجل : إنه يفعلها في المستأنف مما يجب أن يرد فعله لها إلى مشيئة الله عز وجل ؛ لأنه قد يجوز أن يموت قبل ذلك ، أو يقطعه عنه قاطع ، فإن لم يفعل ذلك متعمدا كان غير محمود في تركه إياه ، وإن لم يفعله ناسيا له قاله إذا ذكره فلحق بكلامه الأول .

[ ص: 183 ] وقد قامت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوجب في الأيمان ما قاله ابن عمر فيها ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه أو ليكفر عن يمينه ، ويأتي الذي هو خير ، على ما قد روي في ذلك مما سنذكره بعد في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

فعقلنا بذلك أن إلحاقه الأشياء بإن شاء الله في يمينه المتقدمة ؛ لأنه لو كان مستطيعا لذلك لما احتاج إلى الحنث والكفارة أو إلى الكفارة والحنث ، ولكان يقول : إن شاء الله ، فيعود إلى حكمه لو كان قالها موصولة بيمينه ، وفي ذلك دليل بين فيما قاله ابن عمر فيه ، فأما المراد في حديث ابن عباس فمنه ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم .

1925 - كما قد حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال :

سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم : لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين امرأة ، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة شق رجل ، والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون .

[ ص: 184 ]

1926 - حدثنا أبو أمية قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : كان لسليمان بن داود ستون امرأة ، فقال : أطوف عليهن الليلة ، فتحمل كل امرأة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله عز وجل ، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا واحدة ، فولدت نصف إنسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما لو كان استثنى لحملت كل امرأة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله .

قال أبو جعفر : وترك سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم في ذلك أن يقول : إن شاء الله ، بعد تلقين الذي لقنه إياها قد يكون على قاطع قطعه عن ذلك ، أو على تقصير سمعه لذلك ممن لقنه إياه .

[ ص: 185 ] وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستثناء في الأيمان أبو هريرة كما رواه عنه ابن عمر .

1927 - حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا نوح بن حبيب ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين فقال : إن شاء الله فقد استثنى .

ووجه ذلك عندنا - والله أعلم - كالوجه الذي ذكرتموه في حديث ابن عمر ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية